معجزات نبوية في غزوة بدر
تعتبر غزوة بدر من الغزوات المباركة في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي كله، حيث كانت البداية الحقيقيّة لظهور المسلمين وعلوّهم، وكل انتصارٍ للمسلمين جاء بعدها سيظل مديناً لهذه المعركة التي كانت بداية الفتوحات والانتصارات الإسلامية، وقد انطوت معركة بدر على معجزات كثيرة، بدت آثارها واضحة جلية في إسلام البعض، وتقوية يقين البعض الآخر، والدلالة على صدقه ونبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، إضافة إلى ما تتركه هذه المعجزات من أثر في نفوس المسلمين على مَرِّ العصور من معرفة قدْر ومنزلة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ومن هذه المعجزات إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أمور غيبية لم تحدث بعد، ثم وقعت كما أخبر بها ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ .. وكما جاءت الأدلة تدل على أن الله ـ تبارك وتعالى ـ قد اختص بمعرفة علم الغيب، وأنه استأثر به دون خلقه، قال الله تعالى: { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } (النمل:65), وقال تعالى: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ }(الأنعام: من الآية59) .. جاءت أدلة أخرى تفيد أن الله تعالى استثنى من خلقه من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم, وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم، قال الله تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا }(الجن: 26، 27) .
وما وقع على لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الإخبار بالمغيبات فبوحي من الله تعالى, وهو إعلام الله عز وجل لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للدلالة على ثبوت نبوته، وصحة رسالته .
ومن هذه الغيبيات التي أخبر بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة بدر :
مصارع الطغاة من مشركي قريش :في اليوم السابق للمعركة، تفقد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرض القتال المرتقبة، وجعل يشير إلى مواضع مقتل المشركين فيها .. فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ( كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال، وكنت رجلا حديد (قوي) البصر، فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، قال فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟، فجعل يقول لا يراه، قال: يقول عمر: سأراه وأنا مستلقٍ على فراشي، ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس، يقول: هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، قال: فقال عمر : فو الذي بعثه بالحق ما أخطؤوا الحدود التي حد رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ ) رواه مسلم .
لقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوات ومناسبات عديدة عن كثيرٍ من الأمور الغيبية التي أطلعه الله عليها، وتنوعت هذه الإخبارات بين البشارة باستشهاد عددٍ من أصحابه بأسمائهم، وهلاك بعض رؤوس الكفر بأسمائهم وأماكن قتلهم، وغير ذلك من الأخبار الصحيحة، التي لا سبيل إلى معرفتها أو الوصول إليها إلا بوحي من الله ـ عز وجل ـ، وهو ما جعل إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم ـ عنها ووقوع بعضها في حياته والآخر بعد مماته وجهاً من وجوه الإعجاز، ودليلا من دلائل نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كما قال الله تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }(النجم: 4:3) . ومن ثم كان عبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنه ـ يقول :
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قاله واقع
مقتل أمية بن خلف :عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ , قال : ( انطلق سعد بن معاذ معتمرا, قال : فنزل على أمية بن خلف أبى صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد ، فقال أمية لسعد : انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت؟، فبينا سعد يطوف إذا أبو جهل, فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة؟ّ!، فقال سعد أنا سعد ، فقال أبو جهل : تطوف بالكعبة آمنا، وقد آويتم محمدا وأصحابه؟!، فقال : نعم, فتلاحيا بينهما , فقال أمية لسعد : لا ترفع صوتك على أبى الحكم، فإنه سيد أهل الوادي. ثم قال سعد : والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام , قال : فجعل أمية يقول لسعد : لا ترفع صوتك وجعل يمسكه، فغضب سعد فقال : دعنا عنك، فإني سمعت محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزعم أنه قاتلك, قال: إياي؟!، قال : نعم. قال والله ما يكذب محمد إذا حدث . فرجع إلى امرأته فقال : أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي؟, قالت: وما قال؟، قال : زعم أنه سمع محمدا يزعم أنه قاتلي، قالت: فو الله ما يكذب محمد . قال : فلما خرجوا إلى بدر وجاء الصريخ قالت له امرأته: أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي؟, قال : فأراد أن لا يخرج فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي، فسر يوما أو يومين، فسار معهم , فقتله الله ) روا البخاري .
نزول الملائكة :انطوت معركة بدر على معجزة من أعظم معجزات التأييد والنصر للمسلمين، فقد أمدهم الله فيها بملائكة يقاتلون معهم، وقاموا بكل ما يمكن أن يكون سببا لنصر المسلمين، من بشارتهم بالنصر، وتثبيتهم بما ألقوه في قلوبهم من بواعث الأمل والاطمئنان والثبات، وبما أظهروه للمسلمين من أنهم معانون من الله تعالى، بل وبما قام بعض الملائكة من الاشتراك الفعلي في القتال .. وفي ذلك قال الله تعالى: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ }(الأنفال:12)، وقال تعالى: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }(آل عمران:126:123) .
وعن عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال يوم بدر: ( هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب ) رواه البخاري .
وعن سماك الحنفي(أبو زميل) ـ رضي الله عنه ـ قال سمعت ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يقول: حدثني عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: ( لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة (الجماعة من الناس) من أهل الإسلام لا تُعْبد في الأرض، فمازال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل:{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ }(الأنفال:9)، فأمده الله بالملائكة ) .
قال أبو زميل فحدثني ابن عباس قال: ( بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم (اسم فرس من خيل الملائكة)، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه (قطع أنفه)، وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين ) رواه مسلم .
وعن معاذ بن رفاعة عن أبيه، وكان أبوه من أهل بدر، قال: ( جاء جبريل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟، قال: من أفضل المسلمين ـ أو كلمة نحوها ـ قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة ) رواه البخاري .
إن الآيات والأحاديث الواردة والمؤكدة لنزول الملائكة يوم بدر كثيرة، ومن ثم فإن تحاشي وحرج بعض المسلمين من الإشارة إلى أن الملائكة شاركت المسلمين في بدر في قتال المشركين، ما هو إلا صورة من مظاهر الهزيمة أمام الفكر المادي الذي لا يؤمن إلا بالمحسوسات، فالإيمان بالملائكة ركن من أركان إيماننا بالله، والله ـ عز وجل ـ أعلم بكيفية قتال الملائكة وأدوات حربهم وأفراسهم، وليس علينا إلا الإيمان والتسليم بما أتانا به الخبر الصادق من كتاب أو سنة .
ومن المعجزات النبوية التي أكرم الله بها نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة بدر ما ذكره ابن القيم في كتبه زاد المعاد: " أن سيف عُكَّاشة بن محصن انقطع يومئذ، فأعطاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جذلا من حطب، فقال: ( دونك هذا )، فلما أخذه عكاشة وهزه، عاد في يده سيفًا طويلاً شديدًا أبيض، فلم يزل عنده يقاتل به حتى قتل في الردة أيام أبي بكر " .
وذكر ابن كثير في البداية والنهاية أن رفاعة بن رافع ـ رضي الله عنه ـ قال: " لما كان يومُ بَدرٍ تجَمَّع الناسُ على أُبَيِّ بن خلف، فأقبَلْتُ إليه فنظرتُ إلى قطعة من دِرعِهِ قدِ انقَطعَتْ من تَحتِ إِبِطهِ، قال فطَعنتُهُ بالسَّيف فيها طعنة، ورُمِيتُ بسهم يوم بدر فَفُقِئَتْ عَينِي، فَبصق فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعا لي، فما آذاني منها شيء " .
لقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر الرسل معجزة، وأظهرهم آية، فله من المعجزات التي وقعت وتكررت في أماكن مختلفة وأحداث متعددة ما لا يُحد ولا يُعد، والمعجزات التي حدثت له ـ صلى الله عليه وسلم ـ في يوم بدر كثيرة ومتنوعة، منها ما يدخل في علم الغيب المستقبلي، ومنها ما كان من إمداد الله للمسلمين بالملائكة، ومنها حصول الشفاء على يديه لأحد أصحابه ببركته ودعائه، تلكم المعجزات وغيرها تشهد بعلو قدره، ورفعة منزلته .. وما ينبغي لأحد أن يزعم أن المعجزات الحسية لا ضرورة إليها بعد القرآن الكريم، فقد بدت آثارها واضحة جلية في إسلام البعض، وتقوية يقين البعض الآخر، فأخبر بمغيبات انتفى في العلم بها كل احتمال، إلا أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ نبي يوحى إليه .