وفـــــــــاة النبّي
كلُّ مُسلمٍ مِنّا قد تَعرَّض لفُقدان شَخصٍ عزيز و غالٍ على قلبه قد أثُّر ذلك فيه و أحزنَهُ فكيف في مُصَابِ الصحابة و الأمّة أجمع في خير خَلقِ الله النبّي ، قد يكون الرسول قد مَاتَ و ودَّعَ الدنيا و أهلها أيْ نعم إلاّ أنّ كلَامه بَقِيَّ حيّ و سُنَنُه تحيا معنا كلَّ يومٍ ليلاً و نهارًا .
ففي السنة العاشرة للهِجرة ناهَزَ النبّي الثالثة و الستيّن من عُمره وقبل وَفاته بثلاثة أشهر و ثلاثة أيام حَجَّ حُجّتَهُ الأخيرة و هي حُجّة الوداع ، و قد حجَّ معه مائة ألف ..أيْ نعم بعد ما كان وحده ثم مع زوجته و صاحبه إلى عشرة قبل الدعوة أصبحوا في حُجّة الوداع مائة ألف و هذا الرقم تَزايد و تَضاعف إلى أضعافٍ مُضاعفة و بلغ الملاين بل الملايير فصارت هذه الأرقام عَزاؤُنا بوفاة الحبيب الغاليالنبّي .
فقد خَرَجَ النبّي و معه مائة ألف إلى مكة و ارتفعت أصواتهم بالتلبية حتى بُحًّت ، و عندما وصل النبّي عَرفة خَطَبَ في النّاس ، فقال لهم يا أيّها الناس اسمعوا عَنّي و اعْقِلوا فإني لا أدري لعلّي أراكم بعد عامي هذا ، فبدأ ربيعة بن أميّة يُوصِلُ كلام النبّي إلى النّاس .
فقال لهم النبّي أيّها الناس إنّ دِمَاؤكم و أموالكم عليكم حرامٌ في شهركم هذا و بلدِكم هذا ، كل المُسلم على المُسلم حرام دمُه و عِرضُه ، ثم قال أيّها النّاس اتَقُّوا الله في النِساء فإنّهنّ أسِيرات عِندكُنَّ أخذتموهنَّ بأمانة الله و استحللتًم فُرُوجَهًنَّ بكَلِمَةِ الله فاتقُوا الله في النِسَاء ، ثمّ قال أيّها النّاس اسمعوا عنِّي و اعقلوه إنّما المُسلمون إِخوة و أخذ يجمعُ و لا يُفرِّق و ظَلَّ يُردِّدُها حتى قالوا ليته سكَتْ
ثمّ قال يا أيّها النّاس إنِّي مُكَابِر بكُِم الأمًم فلا تُسَوِّدوا وجهي يوم القِيامة ، أيّها النّاس سآتي يوم القيامة أستنقِضُكُم من النّار فيقول الله يا محمد دَعهُم فإنّك لا تَعلم ماذا فَعلُوا بعدك ، فأقول سُحقًا بُعدًا فلا تُسَوِّدوا وجهي يوم القِيامة .
ثمّ قال أيّها النّاس إنّكم سَتُسألون عنّي يوم القيامة بين يدي ربّي فهل سَتَشهدون لي أنّي قد بلّغتْ ؟ ! فبدأتِ الناس تبكي ، ثمّ قالوا له نشهد يا رسول الله أنّك قد بلَّغتَ الرِسالة و أدّيتَ الأمَانة و جاهدت في سبيل دينك.
ثم طلب النبّي من ربيعة أن ينطلِقَ بين النّاس و يَسألهم ذاك فالكّلُّ بات يبكي و يقول نشهد نشهد يا رسول الله ، ثمّ رفَعَ النبّي يدَهُ إلى السَماء و حركّها بين النّاس و قال اللهمّ فاشهد اللهم فاشهد .
و بعدها نزلت قوله ﴿اليَومَ أكْمَلتُ لَكُمْ دِينُكُمْ وأتْمَمتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي و رَضيْتُ لَكُم الإسْلاَمَ دينًا ﴾، فَفَرِحَ عمر بن الخطاببالآية لاكتمال الإسلام أمّا أبو بكرفقد بكى لأنّه أحسّ كأنّه نعيُ الرسول ، ثمّ نزل الرسول من على عَرفة إلى مِنَنْو قال للنّاس أيّها الناس أيُّ يومٍ هذا ؟ فقالوا له الله و رسوله أعلم ، فسكت طويلا حتى ظنُّوا أنّه سيّغيّره ، فقال لهم أليس هذا يوم النحر ؟ ! قالوا بلى ، ثم قال لهم أيُّ شهرٍ هذا ؟ فقالوا له الله و رسوله أعلم ، فقال أليس هذا ذو الحِجَّة ؟ ! فقالوا بلى ، فقال أيُّ بلدٍ هذا ؟ فقالوا الله و رسوله أعلم ، فقال أليس هذا البلد الحرام ؟ ! فقالوا له بلى.
ثمّ طَاف طَوافَ الوداع فدخل المُلتزم و ألصق خدّه و بطنه بالملتزم و ظَلَّ يدعو و يبكي ، فبكى عمر بن الخطاب فقال له النبّي ابكِ يا عمر فهَاهنا تُسكبُ العَبََارَات .
ثمّ خرج النبّي إلى مكة و جمع الناس ، ثمّ قال لهم أيّها النّاس أنا بشرٌ يُوشِكُ أن يأتيني رسول ربّي ليقبض روحي و إنّكم ستُسألون عنّي بين يدي ربّي فماذا ستقولون لربّي؟ فقالوا له سنقول أنّك قد بلّغتَ و وفّيتَ وأدّيتَ و جزاك الله خيرًا ما جزى رسولاً و نبّياً عن أمّته ، فقال النبّي الحمد لله.
ثم خرج مُوَدعًا مكة مُتجِهًا إلى المدينة و لمّا وصل إليها جمع أهلها و قال لهم أيّها النّاس إنّي راضٍ عن أبي بكر و عمر و عثمان و علّي و طلحة و الزبير و سعد و ابن عوف و الُمهاجرين و الأنصار فاعرفوا ذلك عنّي ، ثم قال أيّها النّاس أُذَكِركم بالله في أهل بيتي ..أذكركم بالله في أهل بيتي ..أذكركم بالله في أهل بيتي .
و بعدها قال أيّها النّاس احفظوني في أصحابي فلا يبلغني أنّ أحدًا منكم قد ظلم أصحابي يوم القيامة ، أيّها النّاس ارفعوا ألسنتكم عن المسلمين و ظَلَّ يُردّدها ، ثم نظر إلى الناس و قال لهم أيّها النّاس عُرِضت عليّ الأُمَم يوم القيامة و رأيتُ النبّي يأتي و معه الرجل و رأيتُ النّبي يأتي و معه الرَجُلَينو رأيتُ النبّي يأتي و معه الرَهط ، ثمّ رُفِعَ إليّ سَوادٌ عظيم فقلتُ أمّتي أمّتي فقيِل لي هذا موسى و معه أمّته ، ثم قالوا لي أنظر إلى الأفق الآخر فنظرتُ فإذا بسوادِ أعظم بكثير فقيل لي هذه أمّتك و معهم سبعين ألف يدخلون الجنّة من غير حِساب و لا عَذاب ، فاستزدتُ ربّي فزادني مع كلّ ألف سبعين ألف .
و من ثمّ َ مَرِضَ النبّي و تقلّصت أيّامه و باتت مَعدودة ، فقد بقيت له خمسة عشر يومًا فاصلة ليلقى ربّه ، فاشتدّ به المرض و بات يُصلّي السُننَ بالجلوس ، فدخل عليه عمر بن الخطّاب فقال له مُمَازحًا له لقد شِبْتَ يا رسول الله، فقال له نعم يا عمر فقد شَيّبتني هُود في قوله﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتْ وَ مَنْ تَابَ مَعَكْ﴾ .
و بعدها ذهب النبّي إلى الصحابة و قال لهم أُريد أن أزور شُهداء أُحُدْ ، كأنّه يُوّدِعُ الأحياء و الأموات ، فخرج النبّي ووقف على شُهداء أُحُد و نظر إليهم و قال السلام عليكم يا شُهداء أُحُد أنتم السابقون و نحن اللاحقون و أنا إن شاء الله بكُم لاحِق .
ثم رجع النبّي إلى الصحابة و أخذ يبكي فقالوا له لِما بكاؤُكَ يا رسول الله ؟ فقال لهم اشتقتُ لإخواني ، فقالوا له ألسنا إخوانك ؟ ! فقال لهم أنتم أصحابي أمّا إخواني فهم قَومٌ يأتون من بعدي يُؤمنون بي و لم يروني اشتقت لهم فبكيت .
و بعدها خرج النبّي مع أبي مُويهبة لزيارة البقيع فزار مَوتاها ، ثم قال لأبي مَويهبة يا أبا مويهبة لقد خُيِّرتُ أن أمْلِك مفاتيح خزائن الدنيا و أخلُدَ فيها ثمّ أدخل الجنّة و بين أن ألقى ربّي فأدخل الجنّة ، فقال له أبو مُويهبة بأبي و أمي أنت يا رسول الله اختر أن تملك خزائن الدنيا، فقال له النبّي لقد اخترتُ لِقَاء ربّي فقد اشتقتُ للقائه .
و بعد ثلاثة عشرة يومًا من وفاته زاد مَرض النبّي و تعب كثيرًا وفي الإحدى عشرة يومًا الأخيرة صلِّى بالنّاس مُثقلاً ، و في أخر أربعة أيّام صلّى بهم جَالسًا و أبو بكر إمَامًا عليهم ، ثم قال للنّاس إنّ اللهيأبى أن يَقبضَ نبّيًا من أنبيائه إلاّ بعد أن يؤُمَ بهم رجلٌ من أمّته .
و في الثلاثة أيّام الأخيرة اشتدّ مرضُ النبّي فَقَلِقت النّاس عليه و توافدت للسؤال عنه ، فاعتلت أصواتهم و تهاطلت نِداءاتهم ، فسَمعهم النبّي فأراد الخُروج إليهم ليُطمئِنهم فما استطاع أن يقوم من موضعه ، فصبُّوا عليه سَبعُْ قِربٍ من الماء حتى قال لهم حسبكُم حسبكُم ، ثم حملوه إلى المسجد ووضعوه على المَنبر فلمّا رأته الناس سكتت ، فقال لهم النبّي أيّها النّاس لكأنّكم تخافون عليًّ ؟ ! فقالوا له نعم يا رسول الله ، فقال لهم أيّها النّاس إنّ مَوعِدكم معي ليس الدنيّا و إنما عند الحوض و والله لكأنّي أنظر إليه من مَقامي هذا ، ثمّ قال أيّها النّاس و الله ما أخشى عليكم الفقر و لكن أخشى عليكم الدنيا أن تتنافسوا عليها كما تنافس عليها من قَبلَكُم فتُهلِكَكُم كما أهلكت من قَبلكم ، ثم زاد فقال أيّها النّاس إنّ عبدا خيّره الله بين الدنيا و بين لقائه فاختار لِقاء الله ، فلم يفهم الصحابة قصْدَ النبّي من كَلامه إلاّ أبا بكر فقد أجهَشَ بالبُكاء حتى انتحب ثم وقف وقال للنبّي فديتُكَ يا رسول الله بأبي و أمّي وولدي و مالي و بكل ما أملك ، فنظر الصحابة إلى أبي بكر نَظرةَ المُعاتِب المُتعجّب كيف به يُقاطِعُ النبّيو يُوقِف خُطبتة ، فقال لهم النبّي دعوه فما مِنكم من أحد له فضلٌ عليَّ إلاّ كافئته به أمّا أبا بكر لم أستطع مُكافئته فتركتها لله .
ثم قال للناس من كُنت قد جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليقتص منه و من كُنت أخذت منه مالا فهذا مالي بين يديه و من شتمت له عِرضا فهذا عرضي فليقتص مني فإنّي أحب أن ألقى ربّي نقّيَا ، فقام رجلٌ و قال للنبّي عليك ثلاثة دراهم لي ، فطلب النبّي من العبّاسأن يُعطيها له و قال له جزاك الله خيرا .
ثم قام و قال أيّها النّاس الله الله في الصلاة و ظلّ يُرددها مِرارًا ، ثم قال أيّها النّاس الله الله في الأرحام ، و قال لهم أيضا الله الله في النِساء أُوصيكم بالنِساء خيرا و أوصيكم بالأنصار خيرا ، و بعدها قال أواكم الله نصركم الله حَفِظكم الله أيّدكم الله ثبّتكم الله أواكم الله رفعكم الله ، و قبل أن ينزل من المنبر قال أيّها النّاس أبلغوا منّي السلام كلّ من تبعني من أمتي إلى يوم القيامة .
و بعدها رجع النبّي إلى البيت و تقول عائشةعن وفاةالنبّيأنّه كان يقضي كل ليلة عندإحدى زوجاته ، وعندما اشتد عليه المرض أخذ يسأل كل مرّة هذه ليلة من؟ فكانت ليلتهالأخيرةعند السيّدةميمونةفأرادالرسولأن يرىعائشةفقال اجمعوازوجاتيفجُمعت له زوجاته ، ثم قال لهنَّ أتسمحن لي أن أُمرَّضَ عندعائشة ؟! فأُذن له ثمّ أراد أن يقوم فما استطاع ، فحملاهعلّي بن أبي طالب و الفضل بن العباس إلى بيتعائشةو كان مرضه شديد، فأخذتابنتهفاطمة الزهراءتبكي، فقال لهاالنبّي تعالي يا بُنيتي و قال لها شيئًا في أُذُنهافبكت، ثم قال لها ادني مني فأخبرها شيئًا آخر فضحكت والوحيدةالتي أخبرتها فاطمةهذا السِرّ بعد وفاة النبّيهي عائشة ، فقالت لهاعائشةلما قد بكيتِ فيالأولىو ضحكتِ فيالثانية ؟فقالت لها لأنّ أبيأخبرني أنّها ليلتهالأخيرةفبكيت وفيالثانيةأخبرنيأني أوّلأهل بيته لحاقًا به ، و كان هذا صحيح لأن السيّدةفاطمةالزهراء تُوفيتبعدسِتة أشهرمن وفاةالرسول الذي شهد يومَ وفاته حُزنًا شديدًا .
و كانالرسوليومها مُتعبًا و مريضًا جدًّا فأخذ يتصبَبُ عرقًا و هو يقول لا اله إلا الله إنّ للموت سَكرات ، فأخذتعائشةتُمسكبيدالرسولو تمسحعنه بها عرقه فسُئلت عن فعلها هذا ولِمَ لا تمسح هي بيدها ! فقالتعائشةلهم لأنّ يديالرسولأطيبمن يدي.
و قالت أيضًا أنّ الرسوليومها أراد أن يستاك ليلقى ربّه و فمّهطاهر، فأعطته السِواك فلم يستطع أن يستاك لأنّ السِواك خشنٌعلى لثته ، فأخذته منهعائشةووضعته في فمّها لتُلينه قليلاثم أعطته للرسول ليَِستاكَ ، فتقول أخر شيء دخل فم الرسول هوِ رِيقي ، و بعدها طلب الرسولمن الجميع أن يخرجوا فخرجوا إلاّعائشةبقيت معه ، و تقولعائشةأنّ النبّيمات و هو على صَدرِهافوضع رأسه بين سِحرها و نَحرها و هذا الشيءالوحيد الذيكانت تعتز به و لقد أحست بموته ، فقالت أنها سمعت الرسول يَرُد التحيةففهمت أنه يُكلمُجبريلفأتاهجبريلومَلَكُ الموتالذي سأله إن كان يُريد البقاء فيالدنيا أو الموت ، فقالالرسولبل الرفيقالأعلى بل الرفيق الأعلى.
فماتالنبّي فأحست بثِقلهعليها فَعلِمَت أنه قدمات ، فخرجت تجري إلى المسجدمن باببيتها الذي لم يكُن يخرج منه أحد إلا الرسول، فدُهش الناسلرؤيةعائشةو هي تبكي و تقول ماتالرسول فانفجر المسجدبالبُكاء ، فدخلأبو بكرو تأكد من موته.
فتعالت الأصوات في المسجد النبّوي فدخل عمر بن الخطاب على النبّي و قال من الذي قد قال أنّ النبّي قد مات فأقطع له عُنُقه ؟ ! ثم دخل أبو بكر الصدّيق فوجد النبّي ميِّتًا فقال وا نبّياه وا خليلاه وا حبيباه ثم نظر إلى وجه النبّي و قال ما أجملك و أنت حيّ و ما أجملك و أنت ميّت ، طِبتَ حيًّا و طِبتَ ميّتًا ، ثم قال لعمر أسكت يا عمر ، ثم خرج إلى الناس و قال لهم من كان يَعبد محمّدَا فإنّ محمدًا قد مات و من كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت وتلا قوله ﴿و مَا مُحمَد إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلهِ الرُسُلْ أفإنِ مَاتَ أو قُتِلْ انقَلَبتُمْ على أعقَابِكُمْ و مَنْ يَنقَلِبْ على عَقِبَيهِ فلنْ يَضُرَّ الله شَيئَا و سيَجزِي الله الشَاكِرينَ ﴾ .
و يقول عمر بن الخطاب في ذلك لمّا سمعت هذه الآية على لِسان أبي بكرسَكنتُ و لكأنّّي أسمعها لأوّل مرّة ووقتها تأكدت أنّ النبّي قد مات ، فخرجت لأبحث عن مَكانٍ أبكي فيه وحدي ، فناداني أبو بكرو قال لي يا عمر رسالة النبّي ، فبايعت الناس أبا بكر ليكون خليفةَ المسلمين .
ثم دخل الصحابة على النبّي ليُغسِّلوه ، و يقول علّي بن أبي طالب في ذلك أمرني رسول الله أن يُغَسَّلَ في ثِيابه ، فدخل أهل بيته لتغسيله علّي و العبّاس و الفضل بن العبّاس و أسامة بن زيد ثم جاء أوس من الأنصار فقال لعلّي يا علّي أين نصيبي في رسول الله ؟ دعوني أغسله معكم ، فأخذ العبّاس و الفضل يُقَلّبان النبّي و أسامة يسكب الماء و علّي يغسله .
ثم دخلت عليه الناس أفواجًا أفواجَا للصلاة عليه ، فأوّل مجموعةٍ ضَمّت أبو بكر الصّديق و عمرفقال عمر أشهد أنّك قد بلغت الرسالة و أديّت الأمانة و نَصحت الأمّة و جاهدت في سبيل الله .
ثم تتالت بقيّة المجموعات تِبَاعًا ، ثم دخلت النِساء للصلاة عليه و من ثمَّ الأطفال .
و بعدها جاء الوقت الحاسم وقت الدفن و الوداع فكلّ الصحابة استعظموا هذا الموقف و لم يُحبّذوا فِكرة وضع التُراب عليه إلاّ أنهم تشجّعوا و تماسكوا و تذكروا قول النبّي لهم حَياتي خيرٌ لكم أَهْدِيكم إلى الخير و مَماتي خير لكم تُعرضُ عليَّ أعمالكم يوم الخميس فما كان فيها خيرٌ حمدتُ الله و ما كان فيها شرّ استغفرت لكم الله، فقالوا له أتعرفنا يا رسول الله بعد مماتك ؟ ! فقال لهُم أعرفكم بأسمائكم و أنسابكم ، فقالوا كيف تدعو الله لنا و الدُود قد أكل جِسمك ؟ فقال لهم إنّ الله قد حرّم الأرض على أجساد الأنبياء .
فمات خير خلق الله و مِثلَهُ مِثل باقي الناس ضَمّه قبر من قبور الأرض ، فوضع الصحابة النبّي في قبره و باشروا بوضع التُراب عليهم ، فجاء المُغيرة بن شُعبة و رمى بخاتمه في القبر و قال للصحابة رُويدكم لقد سَقط منّي خاتمي ، فقالوا له انزل و أَحْضِره ، فنزل المُغيرة إلى القبر و احتضن النبّي و أخذ يبكي ، ثم قال لقد أحببت أن أكون آخر من يُودّعك يا رسول الله ، فأخذ خاتمه و خرج .
فتمّ دفن النبّي ووقتها نادت فاطمة على أنَس و قالت له يا أنس أطابت لكُم أنفسكم أن تضعوا التُراب على رسول الله ؟! فسكت أنس و بكى ثم انصرف ، و يقول مالك بن أنس في ذلك دخل الرسول المدينة يوم الاثنين فأضاء منها كلّ شيء و خرج منها يوم الاثنين فأظلم فيها كلّ شيء.
فهكذا كانت وفاة أحَبّّ خلق الله إلى قُلوبنا فيومها عمّ الحُزن المدينة المُنّورّة فاخترق قُلوبهم و باتوا حُزانى لا يُكَلِّم أحدُ منهم الآخر و حتى الزوج مع زوجته الكلُّ يبكي لا غير .
و في اليوم المُوالي لوفاة النبّي خرج بِلال ليُؤذِنَ للصلاة فلم يستطع أن ينطق أشهد أن محمدا رسول اللهفأجهش بالبُكاء ، فقصد أبا بكر الصّديقو قال له يا خليفة رسول الله أعفني من التأذين و كان له ذلك .
فهكذا مات الرسول إلاّ أن سَلامه علينا لم و لن يَمُتْ فهو يَصِلُنا منه كلّما سلَّمنا عليه ،و قد قال في ذلك (( من صلى عليّ عند قبري سمِعته ،و من صلى عليّ َنائيا و كلّ بها ملك يبلغني و كفي أمر دنياه و آخرته و كنت له شهيدا أو شفيعا )).
و قال أيضًا (( من صلى عليّ يوم الجمعة مائتي صلاة غفِرَ له ذنبه مائتي عام )) .
و قال الحبيب الغالي أيضًا ((من قال حين يسمعُ النداء ، اللهم ربّ هذه الدعوة التامة و الصلاة القائمة آت محمد الوسيلة و الفضيلة و ابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ،حلت له شفاعتي يوم القيامة )) .
و قد قالسيّد ولد آدمأيضًا (( لا تجعلوني كقدحِ الراكب يجعل ماءه في قدحه فان احتاج إليه شربه و إلاّ صبّه ، اجعلوني في أول كلامكم و أوسطه وآخره )) ,
فاللهم صلِّ و سلم على حبيبنا و قرة أعيننا محمدعدد خلقك و رضا نفسك و زينة عرشك و مِدادَ كلماتك .