بسم الله الرحمن الرحيم
إن صورة العالم الإسلامي اليوم صورة محزنة ومؤثرة في النفوس وإن القلب ليحزن والعين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين} [1].
كفر بواح قد استشرى وشرك أكبر قد سرى وتضييع للصلوات واتباع للشهوات وحكم بغير ما أنزل الله وترك للجهاد في سبيل الله وموالاة لأعداء الله وحب للدنيا وكراهية للموت وغير ذلك من الصور المؤلمة التي لم تعد خافية على أحد والتي قد أودت بهذه الأمة في الهاوية.
ولكن... من الآلام تبزغ الآمال والرجال تصنعهم المحن وابتسامة الفجر الوليد تبزغ من أشد ظلمة في الدياجي [2]، فالمبشرات بعودة الإسلام وظهور أهله واتصال حاضرهم بماضيهم كثيرة وهي متحققة لا محالة بعز عزيز أو بذل ذليل، فمهما فشت الضلالة واستحكمت الغواية واستشرى الفساد وانتهكت الأعراض فسيبقى الإسلام وتمتد رقعته ويبلغ ما بلغ الليل والنهار بصدق العلماء وجهود الدعاة ودماء الشهداء [3].
فعن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر) [4].
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى - أي ضم وجمع - لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها) [5].
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة) [6].
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة) [7].
قال الشيخ عبدالرحمن بن عبدالحميد الأمين - حفظه الله - معلقاً على هذا الحديث: (دل هذا الحديث على أن الوصف الثابت للطائفة المنصورة الظاهرة على الحق هي القتال في سبيل الله حتى تقوم الساعة) [8].
ومن أصول أهل السنة والجماعة؛ أن الجهاد ماضِ إلى قيام الساعة مع الأمراء أبراراً كانوا أم فجاراً، لذلك فنفوسهم تتعشق الجهاد وقلوبهم تهفوا إلى الشهادة في سبيل الله لعلمهم بفضل الجهاد وإدراكهم لأهدافه النبيلة وغاياته وثمراته الجليلة، فأهل السنة والجماعة هم أهل الجهاد وهم الذين يقومون به خير قيام وهم الذين في إحيائه في كافة صوره وأنواعه، فكم شهدت لهم في النصر من عزمة وكم أذاقوا أعداء الإسلام من كأس للهزيمة مرّة وكم نصروا من مظلوم وكم ردوا من حق سليب [9]، فبالجهاد تشرف الهمة ويرفع الذل عن الأمة، وبه يحق الحق ويرفع الظلم وتصحوا الأمة من رقدتها وتنهض من كبوتها.
ولقد تظافرت النصوص في استمرارية الجهاد وعدم انقطاعه عن الأرض إلى قيام الساعة:
فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) [10].
وعن عروة البارقي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم) [11].
قال ابن حجر رحمه الله: (وفيه - أي الحديث - أيضاً بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة، لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدون وهم المسلمون، وهو مثل الحديث الآخر؛ "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق... الحديث") [12].
وما دام في الأمة مجاهدون فعندئذٍ؛ {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله فضل الله المجاهدين بأمواهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً * درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً} [13].
ومما يدل على استمرارية الجهاد ما جاء عن سلمة بن نفيل الكندي رضي الله عنه قال: (كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله أذال الناس الخيل ووضعوا السلاح وقالوا: لا جهاد، وضعت الحرب أوزارها! فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، وقال: "كذبوا الآن جاء القتال ولا يزال من أمتي يقاتلون على الحق ويزيغ لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة") [14].
إن وجود المجاهدين اليوم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير والفلبين وارتريا... وفي سائر بقاع الأرض خير شاهد على صدقه عليه الصلاة والسلام ببقاء الجهاد وبقاء أهله.
فالمجاهدون ماضون على الطريق... وإن عزّ الصديق، ماضون على الطريق... وإن قل الرفيق، ماضون على الطريق... رغم المحن ورغم القيود، ماضون على الطريق... مهما ثبط المثبطون ومهما خذّل المخذلون، ماضون على الطريق وحداؤهم:
غرباء ولغير الله لا نحني الجباه
غرباء وارتضيناها شعاراً في الحياه
إن تسل عنا فإنا لا نبالي بالطغاه
نحن جند الله دوماً دربنا درب الأباه
لن نبالي بالقيود بل سنمضي للخلود
فلنجاهد ونناضل ونقاتل من جديد
غرباء هكذا الأ حرار في دنيا العبيد
إن الأمة الإسلامية اليوم غريبة بين أمم الكفر قاطبة، وأهل السنة غرباء بين المسلمين، والملتزمون من أهل السنة غرباء بين عامتهم، والمجاهدون من أهل السنة غرباء بين الملتزمين؛ (فطوبى للغرباء).
ولما علم الكفار ومن حذى حذوهم؛ أن الجهاد الإسلامي سيكسر شوكتهم ويدك دولتهم ويقف ضدهم ويبقى حجر عثرة في طريقهم إلى ديار المسلمين؛ حاولوا إلغاءه بشتى الوسائل والطرق وأنى لهم ذلك، قال تعالى: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} [15]، فلا يزال في أبناء الإسلام الرجال والأبطال... لا يزال فيهم أسود النزال، أحفاد خالد وسعد وبلال... لا يزال فيهم من إذا قال الكلمة اهتزت عرش الكافرين خوفاً منها... لا يزال فيهم من:
يبكي على فقد الشهادة بينما يبكي سواه على حطام زالا
فهذه كلها بشائر نصر وإرهاصات فجر قادم بإذن الله تبارك وتعالى رغم التضييق والمطاردات والاعتقالات.
فالمجاهدون ماضون على الطريق متحدين بذلك الصعاب، قاهرين بصبرهم وثباتهم أهل والنفاق، شعارهم في ذلك؛ {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون} [16]، فلا زالت روح الجهاد تسري في قلوب الشباب وتسير في مسارب دمائهم مستعذبين في هذا الطريق العذاب ومستسهلين الصعاب، وكفى بهذا علامة صدق إيمانهم وشدة حبهم لله لأن؛ "الشوق يحمل المشتاق على الجد في السير إلى محبوبه ويقرب عليه الطريق ويطوي له البعيد ويهون عليه الآلام والمشاق وهو من أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده" [17].
والابتلاء في هذا الطريق سنة ماضية، قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ؟ ألا إن نصر الله قريب} [18]، وقال سبحانه: {ام حسبتم ان تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} [19]، فكل من قام بدين الله وشرعه لابد أن يبتلى فإن صبر وصابر ولم يبال بالمكاره التي على طريقه فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها ومن السيادة آلتها [20]، فهذا "طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم" [21].
فلا تستوحش أُخيّ لقلة السالكين لأن الله عز وجل مع أوليائه وقادر على نصرتهم وهزيمة أعدائه؛ {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [22]، ولكن له سبحانه حكم وأسرار في تأخير هذا النصر، قال تعالى: {ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض} [23]، أي؛ ليقوم سوق الجهاد ويتبين بذلك أحوال العباد الصادق من الكاذب، وليؤمن من آمن إيماناً صحيحاً عن بصيرة لا إيماناً مبنياً على متابعة أهل الغلبة فإنه إيمان ضعيف جداً لا يكاد يستمر لصاحبه عند المحن والبلايا [24].
والمقصود كما يقول ابن القيم رحمه الله: (أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح وليمحص النفوس التي تصلح له ويخلصها بكير الامتحان كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية فإن خرج في هذه الدار وإلا ففي كير جهنم فإذا هذب العبد ونقي أذن له في دخول الجنة) [25].
"وسئل الشافعي رحمه الله أيّما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟ فقال: (لا يمكن حتى يبتلى)، والله تعالى ابتلى أولى العزم من الرسل فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة، وإنما يتفاوت أهل الآلام في العقول، فأعقلهم من باع ألماً مستمراً عظيماً بألم منقطع يسير، وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمر" [26].
أنفاسك الحرى وإن هي أخمدت ستظل تغمر أفقهم بدخان
وقروح جسمك وهي تحت سياطهم قسمات صبح يتقيه الجاني
دمع السجين هناك في أغلاله ودم الشهيد هنا سيلتقيان
حتى إذا ما أفعمت بهما الربى لم يبق غير تمرد الطوفان
ومن العواصف ما يكون هبوبها بعد الهدوء وراحة الربان
إن احتدام النار في جوف الثرى أمر يثير حفيظة البركان
وتتابع القطرات ينزل بعده سيل يليه تدفق الطوفان
فيموج يقتلع الطغاة مزمجراً أقوى من الجبروت والسلطان
أهوى الحياة كريمة لا قيد لا إرهاب لا استخفاف بالإنسان
فإذا سقطت؛ سقطت أحمل عزتي يغلي دم الإيمان في شرياني
فيا أخي الحبيب...
سِرْ على هذا الطريق، وإياك أن تضعف همتك ويخور عزمك وتتراجع إلى الوراء، لقلة الرفيق أو ضعف العدة أو قوة العدو، قال تعالى: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونا تألمون فإنهم يألمون كم تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} [27].
قال الشيخ السعدي رحمه الله: (أي؛ لا تضعفوا ولا تكسلوا في ابتغاء عدوكم من الكفار، أي: في جهادهم والمرابطة على ذلك فإن وهن القلب مستدع لوهن البدن وذلك يضعف عن مقاومة الأعداء، بل كونوا أقوياء نشيطين في قتالهم، ثم ذكر ما يقوي قلوب المؤمنين فذكر شيئين:
الأول: أن ما يصيبكم من الألم والتعب والجراح ونحو ذلك، فإنه يصيب أعداءكم، فليس من المروءة الإنسانية والشهامة الإسلامية أن تكونوا أضعف منهم وأنتم وإياهم قد تساويتم فيما يوجب ذلك، لأن العادة الجارية لا يضعف إلا من توالت عليه الآلام وانتصر عليه الأعداء على الدوام، لا من يدال مرة ويدال عليه أخرى.
الأمر الثاني: أنكم ترجون من الله ما لا يرجون، فترجون الفوز بثوابه والنجاة من عقابه، بل خواص المؤمنين لهم مقاصد وآمال رفيعة، من نصر دين الله وإقامة شرعه واتساع دائرة الإسلام وهداية الضالين وقمع أعداء الدين.
فهذه الأمور توجب للمؤمن المصدق زيادة القوة وتضاعف النشاط والشجاعة التامة، لأن من يقاتل ويصبر على نيل عزه الدنيوي - إن ناله - ليس كمن يقاتل لنيل السعادة الدنيوية والأخروية والفوز برضوان الله وجنته، فسبحان من فاوت بين العباد وفرّق بينهم بعلمه وحكمته) [28].
شمِّر وكافح في الحياة فهذه دنياك دار تناحر وكفاح
وانهل مع النهال من عذب الحيا فإذا رقا فامتح مع المتَّاح
وإذا ألح عليك خطب لا تهن واضرب على الإلحاح بالإلحاح
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
[1] آل عمران : 147
[2] مبشرات النصر والتمكين للعفاني
[3] هذا الطريق فأين الرجال للعلوان
[4] رواه أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3)
[5] رواه مسلم
[6] رواه مسلم
[7] رواه مسلم
[8] التأصيل الشرعي لأحداث أمريكا وأفغانستان
[9] عقيدة أهل السنة والجماعة لمحمد الحمد
[10] متفق عليه
[11] متفق عليه
[12] فتح الباري 6 / 67
[13] النساء : 95 - 96
[14] صحيح سنن النسائي للألباني
[15] الصف : 8
[16] التوبة : 52
[17] زاد المعاد 3 / 15
[18] البقرة : 214
[19] آل عمران : 142
[20] تفسير السعدي
[21] الفوائد لابن القيم (49)
[22] يس : 82
[23] محمد : 6
[24] تفسير السعدي
[25] زاد العاد 3 / 16
[26] زاد المعاد 3 / 13
[27] النساء : 104
[28] تفسير السعدي